وليس الذكر كالأنثى – (1)
نولد كلنا ثدييات، قردة عليا، بعضنا يبقى كذلك وبعضنا يستغل النصف في المائة فارق في التكوين الجيني بيننا وبين من نقاربهم من القردة العليا، بعضنا محظوظ أن يجد من يقوده على طريق العقل والروح، وبعضنا يسوء حظة إلى حد أن لا يجد في طريقه إلا من يعلمونه كيف يكون قردا نظيفا مكسيا من القردة العليا.
وفي كل الأحوال ساء حظنا أم حَسُن، تظل الرحلة ممتعة ومضنية، مقلقة وغير قابلة للتفاوض، ما إن نبدأها حتى تستحيل العودة، ويبقى كل قلق فيها، وكل ألم عليها أهين كثيرا من العودة حيث كنا إلى كهوف القردة العليا.
ومن يسعون في تلك الرحلة يبدأون من حيث يقفون، سعيا نحو التحول إلى ما يسمى الإنسان، وليس من مكان أوضح من ذاك تصح فيه عبارة: وليس الذكر كالأنثى
بكل أسف فإن رحلة الإنسان نفسه في التطور من قرد أعلى إلى إنسان صاحبها ذلك التغير المقلق الذي حوله إلى كائن أكثر تأثرا بمجتمعه وبيئته وعائلته، وأصبحت معطياتهما هي أول ما يبدأ به الانسان، إن قرر أن يبدأ أبدأ رحلته نحو الانسانية.
وبينما يبدأ الذكر من موقع، فعلى الأنثى أن تقطع أشواطا إضافية قبل أن تصل إلى نفس ذلك الموقع، عليها أن تطرق كل باب لتثبت لمن وراؤه إنها إنسان وليست "الرجل ذو الرحم" ولا "إنساناً بشرطة" ولا "نصف إنسان". ليست إنساناً ذو "صفات خاصة" تستوجب التنظيم الذي يضطر المجتمع إلى كبح جماحه تحت دعاوى مختلفة.
وعليه، فلا عجب أن تصل المرأة منهكة، لاهثة الأنفاس، من موقع لا يستطيع رجل إلا أن يتخيل صعوبة التحرك منه، من خلف غمامات الخوف ووسومات العار وفؤوس العشيرة.
بينما يعبر الذكر عتبات المراهقة، الفترة العجيبة التي تنمو فيها الروح بشكل مذهل، تنفتح أمامه أبواب الحياة وتطلق له حمائم الحرية بدرجات مختلفة، فينمو في الاتجاه الطبيعي، ولو بدرجات متفاوتة حسب تفتح مجتمعه، ولكن كلها على أي حال اختلاف في الدرجة، تعبر الأنثى نفس العتبات إلى القيود والحط من حريتها لو كان لها البعض منها، مما يذكرني بالأحذية الحديدية التي كانت توضع فيها أقدام الفتيات الصغيرات في بعض مناطق الشرق الأقصى حتى وقت قريب كي لا تنمو بعد سن خمس سنوات، فتبدو الأنثى إلى الأبد طفلة. بينما يصبح نمو جسد الذكر رخصة للمزيد من المسئولية والتفاعل مع المجتمع والاستقلال، يصبح نمو جسد الأنثى ترخيصا لكل من يتنفس في محيط عشر خطوط عرض منها أن يملي عليها ما يجب أن تفعله، بدءً من ما عليها أن تلبسه وانتهاءً بما يجب أن تعتقده أولا تعتقده، ما يصح أن تمتهنه وما لا يجوز أن تمتهنه، ونوع القهقهة التي من حقها أن تطلقها كردة فعل على شيء أضحكها كإنسان له حس من الفكاهة.
أتذكر ذلك المشهد المعبر في فلم "أسرار البنات"، حيث ترقد الفتاة بعد انتهاء القصة كلها على سريرها وتزدحم الغرفة الصغيرة بالأشخاص الذين أملوا عليها حياتها: الأب والأم، المأذون، الطبيب، المعلم، الزملاء، عمها، عاملين يتحرشون بها في الشارع، وغيرهم. يصفعني ذلك المشهد كلما شاهدته.
أرى إن نمونا لنختلف كبشر عن القردة العليا لا يتم مهما توفر التعليم أو الرفاهية أو الحب: فتلك قد تجعلنا قردة مدربة أو قردة سعيدة (وهي من الأشياء التي تجعلنا "قِرَدْة راضية" أيضا وتخلق أيضا "القِرْدْة الراضية"). إلا إن التطور عن القرد الأعلى يحتاج إلى ما هو أهم: اكتشاف العوالم الأرحب، انفتاح الذهن، التخلص من القيود الذاتية وقبول ما يمليه الفرد على نفسه منها فحسب، والسعي الدائم لبلوغ الدرجة الأخرى من الفهم والحكمة. وأرى أيضا إنه في أفضل الأحوال فإن ما يتبقى لنا من مساحة نستطيع العمل عليها بعد مؤثرات التربية والمجتمع والوراثة وصفات الجسد هي مساحة ضئيلة مهما بلغت، يصبح الحفاظ عليها مسألة فيصلية في كياننا. إذ إننا شئنا أم أبينا سنحمل ما بين الوعي واللاوعي مساحات هائلة من المعطيات التي تحتاج إلى معجزات كي نصل إليها مبدئيا ولا أقول نتعامل معها أو نتدارسها ومساحات أخرى من المسلمات ومن المخاوف ومن الضعفات. وفي حال توفر أفضل الظروف الانسانية سندرك "نصف في المائة" من تكويننا ونبقى عاملين عليه حتى الموت على أمل أن نرتقي بهذا النصف في المائة عن أصولنا القابعة فوق الشجر أو تحته.
وفي تلك المساحة الضئيلة تغتصب مساحة أخرى من الأنثى خاصة في أهم مراحل تكونها: المراهقة. أتذكر حوارا كان أُجري في مجلة الإذاعة والتلفزيون قبل أكثر من عشرين عاما مع الممثلة صابرين إبان خطبتها للمغني محمد فؤاد (وفسخت الخطبة بعدها بفترة)، قرأته وأنا طفلة. أتذكر جيدا جملة كانت في هذا الحوار قالتها صابرين: "المرأة يتحدد مصيرها يوم أن تولد بإنها ستكون زوجة وأم". بقيت تلك الكلمات محفورة في ذاكرتي. أي حياة تلك التي يتحدد مصيرنا فيها يوم أن نولد؟ أي قيد يوضع على فرصتنا للنمو والتفتح لو كانت حياتنا "نفق" وليست "فضاء"؟ ما هو الغرض من الحياة على أي حال؟ كلنا سنولد ونموت وينتهي أمرنا، نحن ومن نتزوجهم ومن نلدهم، كل ما فيها هو "الاختبار". أن نحس ونرى ونختبر ونخطئ ونفرح ونشعر بالفارق بين نشوة الفخر ونشوة الانتقام ونشوة الفهم. أي اختبار لكائن "تحدد مصيره يوم أن وُلِد؟". أيكون الرحم المظلم الضيق أرحب من كون فسيح يعجز العلم عن حساب اتساعه؟