Wednesday, November 22, 2006

واحجاباه ... واه ... واه (3)


تابع لما سبق

الأمر الآخر الذي أردت أن أعلق عليه بشأن "مولد سيدي حجاب"، وكنت أود الكتابة عنه حتى من قبلها، فقد تابعت – حسبما اتسع الصدر دون أن ينفجر – ما يكتب في الجرائد وما يكتب على المدونات، وتعلقت بأذني نغمة ليست المرة الأولى التي أسمعها فيها، إلا إنها على ما يبدو قد تفشت، وظن أصحابها إنها "منطقية" ردا على من يعتقدون بكون الحجاب ردة ثقافية واجتماعية بل وإنسانية في حق المرأة والرجل على السواء.

فما إن يتحدث أحدهم برأي مخالف بشأن الحجاب حتى تجد من يحدثك عن "الحرية الشخصية" وإنها "الحرية الشخصية" للمرأة وإنه "إشمعنى إل عايزة بتقلع تقلع". وأصبحت ما إن أسمع تلك النغمة حتى أتعجب، ثم أتساءل عن القدرات العقلية لمن يستخدمها.

فحين يرد المعترضون على "فرض" زي معين على المرأة بالدفاع عن "الحرية الشخصية" فهذا وجيه لإنهم يتحدثون عن اعتراضهم على "الفرض" والفرض يتعارض والحرية الشخصية، أو يكون الرد على "تبرير التحرش" بعدم ارتداء زي معين يرضي الأغلبية مغلفا فكرة "من لا ترتدي الحجاب مسئولة عن التحرش بها ولا يجوز أن تطالب بحماية في الشارع" ولا أظن أحدا لا وزير الثقافة ولا غيره تحدث عن "فرض" عدم تغطية الرأس، أو عن إنه يدافع عن التحرش من قبل المثقفين لمرتديات غطاء الرأس في الشاعر وعدم أحقية مرتديات ما يسمى الزي الإسلامي بالحماية لإنهن يدعين لردة ثقافيةََ!! ولا أرى أي منطقية في أن يعتبر تعبيرك عم تراه خطأ ولو كان سلوكا شخصيا، طالما لا تعبر عنه تجاه شخص بعينه تعديا على حريته الشخصية. فمن حقي أن أعبر عن رأيي بإني أعتقد إن الإكثار من مشاهدة التلفاز يصيب بالعته والبله وأمراض الذهان وليس في هذا من تعد على حرية أحد الشخصية أن يشخص نحو الشاشة 24 ساعة في اليوم. هذه واحدة

أما الثانية فهي إن مشاعرا مختلطة تتلمكني حين يتحدث أحدهم عن: "إن إل عايزة تقلع بتقلع" ولا أفهم عم يتحدث. فالمرأة المصرية التي تعتقد "بحريتها الشخصية" وترتدي ما تحب ويتصادف أن ما تحب يخالف رأي من يمشون في الشارع حول اللحم المكشوف تتعرض للتعدي أحيانا على "شخصيتها" نفسها وليس حريتها فحسب. بالنسبة لمن تسير غير مغطاة الرأس فلا تعدم من يصب في أذنيها كلمتين يعبر بهما عن استيائه، ناهيك عن تلك الظاهرة المخيفة: الملصقات. الصق على كل حائط في الترام وكل حائط في الجامعة، وجدران الميكروباص وكل حائط متاح عبارات التهديد والوعيد:

"أيتها المترددة ... ألا تخشين عذاب النار؟"

"الحجاب فريضة كالصلاة"

"حديث الكاسيات العاريات"

"الحجاب يحميكي من الذئاب"

ولا مانع من بعض النعومة أيضا ....

"حجابي طريقي إلى الجنة"

"أختي ... نحب أن نراكي في ثياب العفاف"

"أنا أحب حجابي"

"صوني جمالك بحجابك"

وقطعا، دعوة كل لفكره دليل على سيادة حرية التعبير، وبما إن من يعتقدون إنني عورة يجب إخفاءها يعبرون عن رأيهم بحرية، فقد فكرت أنا أيضا، بما إنني مواطنة لها نفس الحقوق – نظريا على الأقل – أن أضع ملصقاتي الخاصة التي أعبر بها عن رأيي ورأي الجماعة التي لا ترى في الحجاب إلا لعبة سياسية مشفوعة بردة اجتماعية، إليكم بعضا من ملصقاتي:

التهديد والوعيد:

"أيتها المترددة ... أوعي يميلوا دماغك"

"الحجاب مش فريضة ... بطلوا نصب بقى"

"الحجاب فريضة اجتماعية لم تظهر إلا حديثا"

"لو لم يحمك القانون من الذئاب فلن يحميك ألف حجاب"

"عمر الحرة ما تبقى عورة ... عمر العورة ما تبقى حرة" *

ثم بعضا من النعومية الخاصة بي أيضا لأكون أهلا للمنافسة في سوق محتدم:

"مافيش جنة بتتدخل بالهدوم ... ولا حتى جنة الفواكه"

"أختي ... أحب أن أراكي في ثياب مناسبة للطقس"

"إل يقولك إنت عورة ... عوريه"

"صوني رأسك بإعمالها"

"أحب الشمس والهواء واهبي الحياة فوق شعري"

وهكذا، مادام الحديث عن الحريات فليمارس كل منا حريته بكامل طاقته. وعلى كل حين أسمع مرتديات غطاء الرأس يتحدثن عن إنهن "مضطهدات" أحك رأسي في حركة أزلية يعتقد الانسان لسبب ما إنها تساعده على الفهم، بينما اتضح إنك لو حككت رأسك كلما قابلت ما يستعصي على الفهم في مجتمعنا فستنتهي بقرحة في فروة الرأس ولن تفهم شيئا مع ذلك. إخواننا، يعتبرون "التعبير عن الرأي" تعد على حريتهم الشخصية لإنها لا توافق هواهم ولا تتواءم مع ما يفعلون. أفكر في ثورة نصف الشعب المصري الأمي السعيد بأميته لو خرج وزير التعليم ليقول: "الأمية دلالة على التخلف" لتعد سيادته على حريتهم الشخصية وعلى الميول المزاجية لنصف الشعب المصري. أفكر في ثورة الشعب على وزير الصحة لو خرج علينا قائلا: "النزول إلى الترعة سيصيبك بالبلهارسيا"، فمن هذا الذي "لا ينفع وزيرا ولا غيره" ليعتدى على حريتهم وحرية أولادهم الشخصية في "البلبطة" في الترعة كما يحبون، بل وقد يمارس المزيد من تعدياته بمطالبته لوزير الري بتغطية الترع أو تجفيفها. ألا يفهم إن فيصل صحة الرأي وسماحنا لك بالتعبير عنه هو أن يتسق مع مزاجنا العام. أحمق.

وبما إننا فتحنا ذاك الموضوع - لطم الخدود في جنازات الحريات الشخصية فسأورد مثالين قبل أن يوردهم أحد، لإنهما مثالين صارخين على قلب الأمور واستغلال كل المساحات المتاحة تحت مبدأ: الغاية تبرر كل شيء.

أولا: لا تنفك مذيعات التلفزيون المصري المحجبات اللاتي مُنِعن من الظهور على الشاشة في الحديث عن التمييز ضدهن بسبب الحجاب، وأنا وقسما بالقبعات والبناطيل ومشدات الصدر وكل أنواع الملابس أضرب كفا بكف. فمن ذلك الأبله الأحمق الذي يظن إن قنوات التلفزيون التي يخرج فيها الفرد على الناس مجالا "للحرية الشخصية"؟ لو خرج مذيع الأخبار غدا مضفرا شعره سيمنع من الظهور على الشاشة، لو خرجت مذيعة تغطي صدرها بصليب ستمنع من الظهور على الشاشة، لو جرب مذيع أن يقرأ الأخبار بينما يرفع ساقيه على المكتب سيمنع من الظهور على الشاشة، لو قررت مذيعة أن تكشف صدرها ستمنع من الظهور على الشاشة. أليست كلها "حريات شخصية" أيضا؟ أو لنقل مثلا إن مذيعة في قناة "إقرأ" ممارسة لحريتها الشخصية قررت الظهور بدون غطاء رأس هل يا ترى سيسمحون لها؟ ولم لا؟ لإن أماكن العمل ليست أماكنا "للحريات الشخصية" إلا في نطاق ضيق جدا، فكل قناة يفترض إنها تحمل فكرا ما وتنشره ومن حقها أن تفرض المظهر المتماشي مع ذلك، ولا يسري ذلك فقط على التلفزيون، فأنا لا أستطيع أن أعمل في استقبال فندق وأذهب إلى هناك "بالشبشب" مهما كان على أحدث صرعة، ولا أستطيع أن أفعل ذلك حتى لو كانت قدماي تؤلمانني، لإن هناك زي للجميع. لا يستطيع شاب يعمل في استقبال فندق أن يغطي رأسه بطربوش ممارسا لحريته الشخصية. كفاكم قلبا للحقائق.

ثانيا: الموقعة الثانية التي تلطم فيها الخدود ويبكي الكل فيها على الحقوق المهدرة هي موقعة "مصر للطيران" المفترية التي ترفض عمل مضيفات أو قائدات طائرة محجبات. حرية شخصية ... هممم. ماذا لو استيقظت مضيفة صباحا وقررت إن لون الزي الموحد المثير للغثيان الخاص بمصر للطيران يبدو "فظيعا" عليها وقررت أن ترتدي لونا مختلفا ذلك اليوم: لنقل مثلا "ليموني فاقع"، فكما قالت لها صويحباتها فهو يبدو رائعا عليها. حرية شخصية. أو لنقل إن قائد الطائرة قرر إنه يستريح بشكل أفضل في الجلباب – وراحة قائد الطائرة من أمان الطائرة – فقرر أن يذهب لعمله ذلك اليوم مرتديا الجلباب. حرية شخصية. وهو لن يرتدي أي جلباب على أية حال، سيرتدي جلباب صوف معتبر مع قفطانه. أهناك حرية أجمل من ذلك؟ طائرة لا تعرف الطاقم فيها من الركاب. مساواة كاملة. يفترض إن الزي الموحد له هدف، لست أعترض على تغيير الزي الموحد، ولكن حتى يتم ذلك فالالتزام بالزي الموحد أو مواصفات الملبس جزء من العمل لا علاقة له بالحرية الشخصية.

أفكر في ممارسة حريتي الشخصية التي يباهيني بها المدافعين عن غطاء الرأس غدا، وأنوي أن أخرج بكمية محترمة من البشرة المكشوفة، إذ كنت أفكر مع صديق في طرق سريعة للانتحار.

**تنويعة على مقعطع من أغنية سيد درويش "بنت مصر"

"عمر الحرة ما تبقى عرة وعمر العرة ما تبقى حرة"

واحجاباه ... واه ... واه (2)


تابع لما سبق:

ثالثا: أن تضفي على أمر يحدث بشكل يومي، وفي أصله مجرد نشاط انساني سطحي بحت – مثل الملبس – طابعا دينيا أو صبغة دينية هو تمهيد أيضا للأرضية لتقبل إقحام الدين فيما لا يدخل ضمن نطاقه، وهو نفس ما ينطبق على السياسة، إذ إن من أهم مشكلات الإسلام السياسي، أو أي إقحام للدين في السياسة هو الوصول لمنطق ما لتبرير إقحام أمر يفترض إنه روحي غيبي مثل علاقة الانسان والله فيما هو مادي ملموس مثل النظام السياسي. ولتعذر الوصول لتبرير مقنع لا يبق أمامك، خاصة في المجتمعات الأكثر سطحية، أن تعد – للمرة الثانية – مزاجا عاما يتقبل ذلك ويشيد به ولو عجز عن دعم ذلك الاختيار بشكل منطقي، فالمزاج والميل العاطفي أكثر قوة ألف مرة من المنطق.

رابعا: الشعب المصري حسب رأي من أحترمهم من علماء الاجتماع وحسب رأيي الشخصي ديني المزاج، أو لنقل قدري أو غيبي المزاج دون دخول في التفاصيل، بمعنى إن ارتباطه بقوى غير مرئية هام بالنسبة له ولفرد نوع ما من المنطق على حياته إلا إنه لا يهتم كثيرا بالتفصيلات، لذلك، فعليك لو أردت أن تميله دينيا في جهة أن تجعل حجر زاويتك أمرا سطحيا سهل التبرير. "زي" "للمرأة". جمعت بين السطحية والفكر العام السائد بخصوص المرأة وجسدها وأقنعت الناس إنهم بذلك "متدينون" بشكل خاص دون أن تغرقهم في تفاصيل فقهية أو حتى تبرر لهم ما أقنعتهم إنه فرض إلا بكلمتين سطحيتين دون تمحيص، ولإن المصري دينيا لا يحب الدخول في التفاصيل، فقد أصبح سهلا عليك أيضا أن تحدثه بنفس الطريقة عن ضرورة إقحام الدين في السياسة – على أرضية ممهدة – دون الدخول في تفاصيل.

خامسا: بعد تلك الجرعات اليومية من "السطحية" و"تأصيل" النزعة الدينية الشكلية يكسب الإسلام السياسي مساحة واسعة يتحدث فيها بشعارات رنانة تبدو دينية ولا توضح أي تفاصيل. كانت مشكلة الإسلام السياسي دائما هي التساؤل: "ما هو برنامجكم السياسي" فيأتيك الرد: "الإسلام هو الحل" أو ما شابهها من الشعارات المطاطة التي لا تحمل ردا لا على اقتصاد ولا سياسة. وفي بيئة ممهدة يرد الناس: "الله، يا سلام" ولا يسأل أحد الأسئلة الأساسية الفاصلة. وعليه تصل لصناديق الانتخاب دون أن ترد على أي تساؤل مشروع من نوع: "ماذا لديك لتقدمه؟"

سادسا: حقق الحجاب مكسبا إضافيا جانبيا لم يكن محسوبا أرى إن الإخوان المسلمين بالذات تعاملوا معه بمنتهى الذكاء. فقد كانت مشكلة الزي المميز للمرأة في بداية ظهوره هي كونه فقير الهيئة، قبيح غالبا، حيث كانت تصميماته قليلة جدا وألوانه محدودة – لاحظ إن الحجاب ليس مجرد "تغطية الرأس" إنما تغطيتها بشكل معين يعلن عن انتماء صاحبته، فأنا من الممكن أن أرتدي غطاء للرأس مع أكمام طويلة في الشتاء ولا يحقق ذلك الغرض المطلوب – ولما كان فقير الهيئة وكانت النساء المصريات المحبات للألوان والاهتمام بمظهرهن والمعتادات على ذلك خاصة في البيئات الأغنى اقتصاديا على عكس الخليج مثلا الذي هبت منه تلك الأزياء، فقد كانت تلك مشكلة إضافية. ولست أدري من صاحب العقل الشيطاني الذي توصل لفكرة عبقرية، هي إنه مادام الهدف هو "العلامة"، فمن قال إنها لابد أن تكون مطابقة لمواصفات ما يسمي الحجاب الشرعي؟؟ صحيح إن الهدف المعلن هو ألا تلفت المرأة النظر ومن المستحيل أن تدير بصرك عن غطاء رأس أزرق مطعم بالأصفر الفاقع ملفوف بشكل معقد جدا، ولكن هذا غير مهم. فتعال معي لمجلة "حجاب فاشون"، ولأزياء تتنافس في لفت الأنظار، ومذيعات يرتدين ملابسا للدعاية، وبرنامجا تقدمه عارضة أزياء سابقة يخصص فقرات كاملة لـ"لفات الطرح" وممثلات خرجن علينا في مسلسلات يرتدين أغطية للرأس ليست مثالا للأناقة فحسب، إنما مثبتة للأعين عليهن لما فيها من إبداع وتعقيد وإطلاق لصرعات جديدة تتابعها الفتيات مثلما كن يتابعن تصفيفات الشعر. على استحياء تظهر تساؤلات مشروعة حول اتساق ذلك مع الهدف المفترض عمقه في الحجاب لكنها لا تلقى صدى ولا تشجيعا، فليس "العمق" من مصلحة الإسلام السياسي ولا من مصلحته أيضا أن يخسر ما كسبه من مساحة إضافية بجعل الحجاب في نفسه يفي بما يفترض إنه جاء لمنعه وبالتالي لا تتضايق الفتيات خاصة صغيرات السن أو يشعرن إنهن أقل جمالا أو جاذبية. أضف إلى ذلك التحرر من "حتمية" العناية بالشعر وهو أمر لو تعرفون هام بالنسبة للمرأة المصرية، وألاحظ إن أهم تساؤل يرد على ألسنة المحجبات بشأن شعورهن هو تساقطها، وأهم سبب لذلك – بعد أن يسألهن الطبيب ويرددن عليه – هو إنهن يغسلن شعورهن ثم يربطن غطاء الرأس ويخرجن وهو أمر صعب جدا أن تفعله امرأة مصرية دون أن تغطي شعرها: "حرية أن تغسله وتخرج وهو مبتل كما هو"، فهذا حق أصيل للرجال الذين يضعون رؤوسهم صباحا تحت الصنبور ويخرجون.

سابعا: بعد سنوات من الوسوسة في الآذان اكتسبت مسألة الزي المميز للمرأة قصورا ذاتيا فأصبحت تتطور وحدها، فلم يعد مهما أن تكون فتاة متدينة جدا، أو حتى تصلي كي ترتدي الحجاب، بل ولا حتى أن تكون مؤيدة للإسلام السياسي، ولكنها ستدافع بأسلوب محموم عن "الحجاب" و"كون المرأة عورة" وخلافه دفاعا عن نفسها أساسا وهو المكسب الأهم في نظري، إنك جعلت حتى من لن يعطوك أصواتهم في صناديق الانتخابات يعملون كدعاية لك بصبغ ما هو سطحي وما هو عام بصبغة دينية، وأظنها، لو كانت تلك الشطحات الفكرية لها أي قدر من الوجاهة، سابقة سياسية ليس لها مثيل!!

ثامنا: سيتبقى لنا الآن أن نتفرج على "مسخرة" دفاع الحكومة عن نفسها بإنها "متدينة أكثر من الإخوان" وإنها تستحق أن تبقى في الحكم لإنها حكومة مسلمة موحدة - وانظر للأزهر المتحدث باسمها إن كان لديك شك.

- يتبع -

واحجاباه ... واه ... واه (1)

أحيانا ما يحدث أمر مذهل في عبثيته فتخرج عنه ردود أفعال ومواقف مغرقة في الجدية فتتركك لوحدك واقفة في حيرة من أمرك، أهو هزل انقلب إلى جد، أم إن الهزل هو الجد في بيئتنا المشوشة، أم إن لوثة أصابتنا جميعا فصرنا لا نهتم إلا ببيضة الفيل إن كانت بيضاء أم سوداء.*

وإذ أتابع "مولد سيدي حجاب" المعروض حاليا بنجاح ساحق في جميع دور العرض، وما دامت العبثية تمسك بتلابيبنا فقد سمحت لنفسي أن أفكر بحرية بشكل غير مترابط – شكليا على الأقل – دون أن أحاول تربيط الأفكار أو صقلها، وربما، وأقول ربما، أخرج منها بأي شيء يشفي غليلي لتفسير مقنع أو شبه مقنع للعبث. أحيانا تصل لنسق ما في دورة غسالة الملابس لو راقبتها بدقة، سمحت لنفسي أن أسرح بفكري أنا أيضا – أوليس من حقي؟ - فكل يهزل أو يجد، وربما وجدت بعضا من وجاهة فيما دار بخلدي بينما أتابع الشارع المصري من نافذة أتوبيس رقم 54 بشارطة.

أول ما دار بذهني بشأن وزير الثقاف نفسه هو إنني لا أريد له أن يتعرض لأي أذى أو حتى شبه أذى بسبب إعلانه لرأيه إن الحجاب عودة للوراء، فهذا قد يجعله شهيدا للتقدمية، وقد يساهم في تبييض صفحته السوداء، فيبدو الرجل كإنه ضحية السلفيين والمتخلفين، وإنه – يا حرام – هو المدافع عن التقدم ووزير الثقافة الفنان الذي طالته أيدي الرجعية، بينما هو صاحب عهد من أسوأ العهود سواء على مستوى ما تدعيه وزارته من إنها وزارة "ثقافة"، أو على مستوى حرية المثقفين نفسها. كتب تصادر وكتاب ومفكرين يساقون للمحاكم، لم يسلم عهده ممن قُتِل ومن هدد بالقتل ومن فرق عن زوجته، ثم تلوثت يديه بمحرقة بني سويف التي راح فيها بعض من خير نقاد مصر بعد أن تركت وزارته الأماكن التابعة لها والتي لا يؤمها إلا "القلة المثقفة" تتحول لمناطق كوارث. لا نكاد نستفيق من كتاب يصادرونه حتى يلحقنا الآخر. سينما أصبحت نظيفة بعد أن كانت "وَسِخَة" على ما يبدو فصار المرء يكاد يجف حلقه حتى يرى عملا فنيا يمس فيه شيئا، كلية وحيدة للفنون الجميلة تلغي "الموديل العاري" لإنه حرام، وحديث فيها عن أصنام كأننا على وشك أن نقدم القرابين للبعل، فنانون يساقون لنيابات الآداب، انحدار عام فيما يمكن تسميته الثقافة، شرف بالإشراف عليه ذلكم الوزير. قطعا هو جزء من منظومة سياسية كاملة طبقت على أنفاس هذا الشعب حتى اختنق، إلا إن أحدا سواه لم يشرف بكونه "وزير ثقافة هذا العهد الميمون". أخاف أخاف أن يُبَيْض شيئا من صفحته وهي ملوثة بذنب طابور طويل من المثقفين وثقافتهم.

الأمر الآخر الذي دار بذهني هو نفسه ما فكرت فيه وقت أزمة الكاريكاتور الهزلية أيضا، وهو إن الرجل لو كان خرج ليقول: "مافيش حاجة إسمها ربنا" لكان تصريحه مر بزوبعة أقل حدة بكثير مما يحدث الآن، فقد حدث فجأة في السنوات الأخيرة أن صار ما يسمى الحجاب هو ما نعبد – تذكرت الأصنام حالا – وأي مساس به ولو من باب إبداء الرأي يقابل بالدفاع المحموم والذود عن محور التدين حاليا والنعيق والتهديد والمطالبة بأرؤس قد أينعت وحان وقت قطافها و"جهاد" ترفع الأعلام في ساحة المعركة ما إن تثبط الهمم صارخة: "واحجاباااااه ... واحجاباااااااااه" بعد أن يقوم أحد متخصصي تعديل الصور رقميا بتطويع شعر"جهاد" المتطاير في الفلم ويخرج علينا سلامة قائلا: "جهاد ده مش إسم وبس". وقد ساقتني تلك الفكرة لأفكار أخرى، أعتقد إن معظمها أفكار "معادة التدوير". واضعة نفسي مكان تيار الإسلام السياسي، وجدت إن الزي المميز للمرأة المسلمة هو أهم وأحق وأوجب ما يجب الدفاع عنه حاليا، بللنقل إن الدفاع عنه فحسب كفيل بتثبيت أقدامنا وإحراز مكاسب ومساحات لا تقدر عليها أي ظاهرة أخرى بمفردها إطلاقا: أنظر بتأني لمكاسب الإسلام السياسي في مسألة الزي المميز للمرأة المسلمة فأجد ما يلي:

أولا: غطاء الرأس هو "أوسع" علامة للمد الديني الداعم للإسلام السياسي، فبينما في مجتمعات أخرى يعبر الناس عن انتمائهم أو تعاطفهم مع توجه سياسي معين بوضع لون أو شعار، فقد أصبح غطاء الرأس علامة رضوخ للمد الديني لا يستطيع أحد منعها، فبينما تستطيع الدولة التحرش بذوي الجلباب واللحية وربما النقاب، فهي لا تستطيع أن تتحرش بغطاء الرأس لأسباب كثيرة سأورد بعضا مما أظنه بشأنها لاحقا. وبينما حاول مثلا أعضاء كفاية وضع ملصقاتهم على حقائبهم أو بيوتهم فتعرض الأمن لهم، فـ"علامة" مثل غطاء الرأس تعتبر قد حققت مكاسب لا تحصى قائلة: "أنا الإسلام السياسي، وأنا هنا وسأطلعك على حجمي كل يوم على رؤوس نساء مصر" ولا يتطلب ذلك أن تكون مرتدية الحجاب نفسها متعاطفة مع الإسلام السياسي!! وغطاء الرأس كعلامة أمر ذكي جدا، فالمزاج المصري متآلف مع تغطية المرأة لشعرها بالرغم من انحسار ذلك من الستينات وحتى السبعينات حين كان كشف المرأة لرأسها دليل على الصعود الاجتماعي والثقافي، وصارت تغطية الرأس في المدينة أمرا مستغربا. ووقتها بالطبع كما يعرف معظم الناس كان حتى "دعاة الإسلام السياسي" لا يدعون لزي معين للمرأة، وكانت نساؤهم تسرن مثلما تسير باقي النساء – فلا قطب ولا البنا كانت نساؤهم ترتدين حجابا. بالإضافة لتقبل المزاج المصري لفكرة تغطية المرأة لشعرها، فوضع علامة على المرأة وليس على الرجل يجعل التعامل معه أصعب، فملابس النساء غالبا في نطاق الخصوصية، أن تطالب امرأة أن تغطي جزء من جسدها أسهل بكثير من أن تتتحدث عن كشفه مجرد الحديث. فمن حيث العدد يراهن الإسلام السياسي بعلامة مميزة يمكن أن يحملها خمسين بالمئة من الناس – بغض النظر عن أصحاب الديانات الأخرى وسأتطرق لذلك لاحقا – بأقل مشكلات ممكنة مع النظام، تلوح بها: "أنا هنا" ويصعب جدا مهاجمتها. فالجلباب واللحية لهم معوقاتهم الخاصة: يصعب جدا أن يذهب أصحاب أعمال كثيرة إلى أعمالهم بهذا الشكل، بينما لا يحمل غطاء الرأس هذه المشكلة في معظم أماكن العمل التي لا تتطلب زيا خاصا، كما إن المزاج المصري لا يتقبل كثيرا رجل بجلباب أبيض قصير خارج منزله، ويقصر تقبله على أصحاب مهن معينة وسكان مناطق معينة مثل الصعيد، وحتى في تلك الحالة فالجلباب الذي يرتديه أولئك له مواصفات مختلفة تماما عن جلباب الإسلام السياسي.

ثانيا: يحقق غطاء الرأس مكسبا آخر في غاية الأهمية من وجهة نظري للإسلام السياسي، فأنت في دولة تود أن ترسي فيها حكما دينيا، وتقابلك فيها مشكلة وجود ديانات أخرى أهمها عدديا المسيحية، فتأتي لك على الرحب علامة يمكنك أن تغطي بها الشارع وتميز بها المسلمة عن غير المسلمة، وبالتالي أنت تتحدث أيضا عن خمسين بالمئة فعليا من عدد الشعب، فتحقق الانقسام المطلوب، أن يصير هناك بوضوح في الشارع: "مسلمون وغير مسلمين"، وتأجج ذلك الشعور مع ما يصحبه من شعور بالتميز والقوة العددية والتوكيد على اختلاف ما يسمى عنصري الأمة (مع الأخذ في الاعتبار إنه لا خلاف حقيقي بين عنصري الأمة حول فكرهم عن جسد المرأة، كلها خلافات لفظية ليس إلا، وبالتالي فقد أرسى الإسلام السياسي فكرة وجود اختلاف في أمر من الأمور النادرة التي لا اختلاف فيها!!!) وكل هذا يعد الأرضية للمزاج العام لتقبل حكم إسلامي في دولة يقطنها ملايين المسيحيين مثلا بخلاف باقي الديانات، في أقليات معظمها أقليات أصلية وليست وافدة – أي بخلاف الأقليات المسلمة في الدول الأوروبية مثلا التي وفدت في العقود الأخيرة فحسب.

*التشبيه من كتاب "جنة العبيط" لد.زكي نجيب محمود، مقال "بيضة الفيل"

- يتبع -

Tuesday, November 14, 2006


وعقبال اللاب توب في جائزة أفضل مدونة
تنويعة على نغمة شاردة

قلت له
: ألا تلاحظ إن ما يضيع دائما ما يكون ما نحبه كثيرا؟
فرد: ألا يحتمل إننا نلاحظ ضياعه لإننا نحبه كثيرا؟

Wednesday, November 08, 2006

في رثاء آخر بقعة ناعمة

ضقت ذرعا بتلك الخشونة التي تغطي جسمي. صرت كلما وضعت يدا على يد جرحت كل يد الأخرى. أشعر إن جسمي مصنوع من الليف، كعرائس القش، كلما مسسته وخزك القش. أمسك صدري بقوة وأصغطه فأحس الجفاف وقسوة حشو الليف. أطلب من طبيب الأمراض الجلدية أن يصف لي علاجات منعمة للبشرة، فتنفرج أساريره لحمى التجميل السارية بين الناس والتي وسعت رزقه دون أن تزيد من جهده. في الصيدلية أشتري المرطبات وأضع فيها جسدي كله، أفركها بقوة حتى يمتصها الجلد إلى آخر الحشى، فتجف ولا يبقى إلا الليف الخشن. أشتري أخرى وأخرى، أخلطها ببعضها وأحاول مرة أخرى، أدلك ثدييَ بالمرطبات حتى ينجرحان فلا يخرج دم، إنما تبرز حواف القش! أخفي جسمي كله وأخشى أن يمسني أحد فيكتشف إن جلدي كله خشن جدا وإن جسمي مليء بالليف والقش. أحاول أن أتذكر ما حدث فحولني لتلك الكائنة القشية فلا أذكر، أحاول بكل قوة أن أتذكر كيف كان شعور الجلد الناعم فلا أذكر.. ماذا سأفعل الآن؟ فحتى لو عاد إحساس بشرتي ناعما فلن أعرف، لقد نسيت! أتفرج على قنوات الإعلان التي يتحدث فيها الناس عن منتوجات تنعم الجلد، لأسمع النساء يصفن الجلد الناعم علني أتذكر أو أتعلم من جديد!

أبحث في الكتب القديمة وفي وصفات الجدات، أخلط زيوتا من المطبخ وأعشابا ونباتات. يوصون بتدفئة الجسم ثم وضعها ثم تدفئته ثانية لنعومة الأميرات. أجزم إنني سأنتصر هذه المرة، ألف جسمي كله وأنتظر. أغسله تحت الماء بعدها فأجد القش في مكانه، وقد صار زلقا بفعل الدهون. تتبقع الثياب ولا يلين القش.

أغطي جسمي أكثر ولا أصافح أحدا يدا بيد. أغطي كفي طوال الليل في قفاز مغطى بالمرطبات فأحصل على قش ناعم بعض الشيء في الصباح يسمح لي أن أخفي عن الناس حقيقتي الخشنة بهذا الجزء الصغير الظاهر. أنقل جهدي الآن لتنعيم القش وأنسى قصة البشرة الأصلية. أضغط ثديي بشدة كي أعيد القش من مكان جاء وأصرخ فيهما كيف سولت لهما نفسيهما خيانتي والتحول لذلك التكوين المرعب وتلك القسوة الشنيعة. ليس في الكتب علاج لثديين من القش. يزول خوفي من أن يتحرش بي أحد في الشارع معتصرا ثديي، فسيعاقبه القش!

في نوبات الغضب بعد ساعات من المحاولات والتدفئة والتغطية أرمي قوارير المرطبات والزيوت في كل مكان، ألقيها على زجاج النافذة انتقاما فتحدث شقوقا صغيرة، تصير أرضية الغرفة ناعمة لزجة ولا أنزلق عليها أنا بقدمي الخشنتين.

أسأل الناس عن طرق لتنعيم القش فيتعجبون السؤال، لماذا يريد أي أحد أن ينعم قشا؟ أنظر إلي واحدة من الفتيات الناعمات وأرغب في لمسها لعلني أتذكر الإحساس الأول، فلو تذكرته ربما عرفت كيف أصل إليه مرة أخرى. أحس إنني لو مسست بشرة إنسان ناعمة سيغمرني الإحساس ... وأموت. أصبحت أخشى أن أنام على ذراع صديقة ناعمة الجلد فيكون هلاكي. أتجنب مس أصحاب البشرة الملساء. تسند إحداهن رأسها على صدري وتنام، فأتعجب كيف تحتمل الخشونة ووخز الليف والقش، أقدر لها محبتها لي أن تحتمل ولا تشكو، في المقابل لا أشكو أنا أيضا من ضغطها على صدري الذي يرسل قسوة الوخز إلى أحشائي. أسكت وأتركها تنام.

كانت بقعة واحدة في أعماق جسدي قد بقيت ناعمة، كنت كلما يئست أعود إليها. أملس باصبعي ذلك السنتيمتر المربع لأشعر بما كانت عليه الدنيا قبل أن يهاجمها الليف. حجمه أصغر من إصبعي، فحتى حين أضع أصغر إصبع عليه أشعر بكل الخشنوة التي تحيطه. أنفرد بنفسي ليال وساعات كي أمرر إصبعي فوق تلك البقعة. أغمض عيني وأتخيل تلك الرقعة الناعمة تتمدد لتغطي ذراعي، وتغطي وجهي وتغطي صدري وساقاي، لا أفتح عيني قبل أن أشبع من الخيال. أواجه الدنيا بتلك الساعات التي أنفرد فيها بنفسي وأفرد السنتيمتر المربع من الجلد الناعم على كل الجلد الخشن. قبل أيام كشفت جسمي كي أمس تلك البقعة الباقية فلم أجدها، وجدتها قد تجانست مع بيئتها المحيطة. أحكها بجنون لعل الرقعة الناعمة تبرز من تحتها، فلا أجد شيئا، كانت البقعة الوحيدة الباقية التي تنز دما لو انجرحت. صارت هي الأخرى لا تبرز جروحها إلا حواف القش! يغمرني شعور جدة مات كل أبنائها ولم يبق لها من ذكراهم إلا حفيد واحد، تغطيه وترعاه، صحت ذات يوم لتجده هو الاخر إلى جانبها وقد مات!

تمر سنواتي المغطاة بالقش الذي أخفيه عن الناس. يصطدم بي بالصدفة في سوق مزدحم. تمر يده على ذراعي بسرعة فيبتسم ابتسامة بريئة وتقول عينيه بشقاوة: "بشرتك ناعمة جدا" ... فأبكي! يعتذر مني "أوجعتك؟" ظانا إن خشونة يديه الذكورية جرحت بشرتي الأنثوية الناعمة ويمضي دون أن يخمن لماذا بكيت!

إلهام
في جلسة خاصة علق على هذه المدونة قائلا: "إنك تكتبين كثيرا هذه الأيام"
وفي نوبة صراحة رددت عليه: "كلما سعيت إليك أن تأتي فعصيت ... أكتب!"

Saturday, November 04, 2006


"كثيرا ما تخرج لي هذه المدونة لسانها بسخرية لما أعيد قراءة ما كُتب فيها، تسخر مما كتبت لإنها تعرف بالتمام ما لم أجرؤ أن أكتب ..."