Tuesday, March 27, 2007

هه؟!!!


هناك من الناس من لا أفهمه. أولئك الذين يتزوجون من أجل المال مثلا ثم يطلبون الحب، وأولئك الذين يتزوجون من أجل الجمال ثم يطلبون الثقافة. حين تختار خيارا أي عجب في أن تحصل عليه؟ لماذا تتبرم بعدها كأنك فوجئت؟ لا أدري

فقد فوجئنا بتدوينة سيحفظها التاريخ - بسبب التعليقات أكثر من كونه بسبب محتواها - تقول فيها الكاتبة:

سأختار وبلا تفكير العودة إلى عصر الحريم

تفكير إيه يا ست الكل يا سلطانة - الحاجات دي بتعمل هالات سوداء تحت العينين تسرع قوي من انتهاء صلاحيتنا كما يقول الأخ اسمه إيه ده إل فرحان قوي بالتدوينة بتاعتك، فكل سنة بتفرق معاكي

يا سلطانة – يا ست الكل: الحريم "حالة" وليس "عصرا" وهي بالضبط الحالة التي أنت فيها وأنت تنزلين إلى العمل مرغمة تركبين التوك توك لمجرك إنت تلك رغبة بعلك - والبعل هو السيد - أي لمجرد إن تلك رغبة "سيدك". كل ما في الأمر إنك تريدين عصر الحريم وتريدين الاختيار "على مزاجك" وهاذان لا يجتمعان، كمن يرغبون في الزواج لأجل الجنس ثم يطالبون بالثقافة.

فالحرمة هي إنسانة لا خيار لها فيما تعيشه في حياتها، فالسلطانة الحرمة لا تختار أن تكون سلطانة، هم يختارون لها أن تكون سلطانة، والجارية الحرمة لا تختار دورها: أن تكون خادمة فراش أو حمالة حطب. فلو كان نهداها متختخين بما يكفي ومؤخرتها مربربة بما يغري الرجال فالأغلب إن نخاسها سيبيعها خادمة للفراش، وراقصة مخادع، أما لو كان حظها من الدهن أقل ففي الأغلب سينتهي بها الحال إلى حمل الماء والحطب وسلخ يديها في التنظيف والدعك. وعليه فما تطالبين به من الأساس لا يتوافق مع كونك "حرمة". فأول ما يجب أن تفعلينه لتعيشي حالة "الحريم" على حق هي أن تستغني عن حرية الاختيار أو الحلم به.

لا تظني إن الحريم كلهن كن يغسلن ويربين العيال وغبيات. كانت هناك الجارية الفنانة التي تبدع الشعر والموسيقى. إنما فنها أيضا لا يجب أن يخرج عن الخط المرسوم، لخدمة الرشيد والسيد. أي ممكن جدا، ولا أتفق مع المعلقين الذين سألوك لماذا تكتبين، فلا يمنع أبدا أن تكون الحرمة فنانة، بالعكس فهذا يزيد من قيمتها السوقية، مثل التعليم في يومنا هذا.

فلو كنت تنزلين إلى العمل اليوم مجبرة لإن "الرشيد" يأمرك بذلك فأنت من الحريم، كل ما في الأمر إنك لست من الحريم "المدملكة" التي تحفظ تحت الشراشف، إنما الرشيد قرر استخدام نوع مختلف من مجهود جسدك لخدمته أيضا وهو "حمل الماء والحطب" إنما بلغة عصرنا: أن تشاركي بالمال على أعباء الحياة، بينما أنت ترغبين في الربربة والكسل على فراش وثير. وعليه فأنت حرمة بالفعل – الحريم "حالة" وليست "عصرا" كما ابتدأنا. فلا تطلبي ما لا طاقة لك به. أنت حرمة في مكان لا تحبينه ولكي تصلي للمكان الذي تحبين عليك أن تثوري فلا تعودي بعد "حرمة" - فالحرمة لا تثور، إنما تسمع وتطيع وأعتقد إن هذا ما يسمونه "المعضلة". ما عليكي من الكلام إل ممكن يقلق دماغك المتكلفة.

وبعد: لقد كتب زوارك دررا، وكما يقولون:
للعبقرية دائما سقف، أما الحماقة فلا حدود لها

انظر معي أيها المواطن المطحون في معضلات عصرك الطاحنة، ولن أتحدث حتى عن معضلات الإنسانية عموما في كل العصور، إلى الصورة التي رسمتها المعلقة وأيدها الكثير من المعلقين واعترضت عليها تمرحنة نفسها لإنها "خنقة شوية" - انظر إلى تلك الصورة وقل لي بأي غال عليك: إيه ده؟!

"قررت منذ سنوات أن أترك العمل -كنت أعمل طبيبة- وابقى في منزلي لأربي أبنائي على طاعة الله ومحبته. صارت حياتي أشبه بتلك الحياة التي تحلمين بها وتتمنيها لنفسك وللنساء من بنات دينك. أنظف منزلي واطعم ابناءي من خير الله وأنتظر زوجي لأسعده وأدللة وأرتدي له ما غلا ثمنه وخف وزنه لتمتع كل منا بالآخر في الحلال. صديقاتي مثلي ايضا, نقضي وقتنا في تنعيم بشرتنا وتكحيل عيوننا وتستفيد كل منا من خبرات الأخرى"

هو سؤال قليل الحياء شوية... خبرات الأخرى في إيه بالضبط؟

أضيعت فرصة تعلم حرفة هامة كالطب في بلد ينهكه المرض على شخص آخر كان يمكن أن يشفي أدواءنا لكي تتفرغي لتنعيم بشرتك وتكحيل عيونك؟ استعملت الفسيولوجي لتعلم فنون تقشير البشرة ونزع شعرها؟ ومهاراتك الجراحية في إزالة البقع الحمراء التي تبقى بعد استعمال الحلاوة؟ وعزة جلال الله هذه الأمة ستنهض، ستنهض رغم كيد الكائدين ولو كره الكارهين، فمشكلتها الحقيقية هي إن بشرة ستاتها "مقشفة" شوية، وفور أن تنعم البشرة وتكتحل العيون ستنهض ... وستفخر الأمة بستاتها النواعم، المتفرغات لتكحيل العيون وطبخ الحلاوة وارتداء ما خف حمله وغلا ثمنه. عار عليك يا من تقول إن أمة هذه أحلامها وأهدافها ستبقى في ذيل الأمم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. فكيف سنقابل تحديات الإنسانية المتزايدة كل يوم؟ ببشرات مشعرة جافة وعيون ذابلة وقمصان نوم دبلان من بتاعة الكساء الشعبي؟ خسئت وثكلتك أمك: سنقابلها ناعمات بضات، ملط مكتحلات، مرتديات ما أبدعه الكافر شانيل من ما شف وخف. وسنبقى ندعو النساء اللائي يفضلن خشونة العمل الجاد على نعومة البشرة الكسولة، ويفضلن قضاء أوقاتهن في أمور جانبية مثل السياسة أو العلوم أو حتى القراءة حتى يسمعن، سندعوهن إلى اجتماعاتنا وصديقاتنا حيث تساعد كل منا الأخري في نزع شعر المناطق الصعب الوصول إليها، وما إن يشعرن كيف أصبحت ظهورهن وأفخاذهن من الخلف ناعمة في تلك المناطق التي يحب الرجال اعتصارها فسيدركن الحقيقة الغائبة: ما إن نملس بشرتنا جميعا "سيتزحلق" عليها الزمن ويعيدنا إلى حيث ننتمي: عصور ما قبل اختراع بني آدم.

*****************************

"سمعتيني بدب المفتاح في الباب و حتحضريلي الغداء، ماحنا زي ما احنا عارفين كيانك مش معناه انك تنسي انك مرأه و شرع الله بيأمرك انك تاخدي بالك من جوزك، و طبعا علي ما انام بعد الغداء و يدوب تكوني لميتي الغسيل حتلاقي عيالك صحيولك زي القرود و تبتدي تذاكرلهم، و طبعا انا لما أقوم من النوم حتقوليلي تعالي كملهم مذاكرة لحد ما أطبق الغسيل و علي ما اذاكرلهم ساعة حتكون الساعة جت سبعة ولا تمانية وتلاقي العيال فتحوا بقهم عايزين عشاء و طبعا حتحضري ليهم و ليا و بعد كدة حتخشي تغسلي المواعين و بما اني راجل متعاون حدخل انا انيمهملك يا ستي ولا تشغلي بالك بس حطي بقي في بالك ان بعد ما كل الفيلم ده يخلص انتي مطالبة بواجب مسائي خاص جدا يحتاج مجهود خاص و موود خاص يفترض انه يكون موود لذيذ بس طبعا بعد يوم طويل زي ده ابقي قابليني لو كنتي فاكرة انتي اسمك ايه اساسا مش حتي موود عادين و استحملي بقي يا حلوة الكلام ده كل يوم و ابقي قابليني لو عند سن الخمسة وتلاتين مبئاش شكلك بنت خمسة و اربعين و انتوا مشاء الله كل سنة بتفرق معاكوا أوي و ساعتها بقي ابقي سلميلي علي كيانك و صدق اللي قال اللي يحب الدح مايقولش أح،"

وتقوليلي عايزة ترجعي عصر الحريم؟! أمال ده عصر إيه يا أمي؟ لما واحد بني آدم زيه زيك بيقولك تشتغلي خدامة على مزاجه، وبعدين "إنت مطالبة بواجب مسائي"، مافيش حاجة اسمها "موود" طالما فيه "مطالبة" يا محترم. وبيتكلم كإنه بيقول حكم، حكم، وكإن إل بيقوله ده مثلا: منطقي وطبيعي ومافيش خلاف عليه، وإزاي إحنا البهايم مش شايفين الحكمة في إل هو بيقوله. وسؤال الحلقة هو نفس سؤال كل الحلقات إل فاتت: إيه إل بيخلي الراجل لمجرد إنه مدلدل كيس وماسورة بين رجليه يفتكر إن هو معفى من كافة مسئولياته عن نفسه من إطعام نفسه وإلباس نفسه وتنظيف نفسه وعايز حد لا مؤاخذة يشدله السيفون بعد ما لا مؤاخذة يستعمل الماسورة في لا مؤاخذة أي وظيفة حيوية يعني كدة ولا كدة؟ وعمال يتأمر كأنه مثلا جاب التايهة وأهدى البشرية عمل عظيم يستحق عنه أن يخدمه إنسان آخر خدمة العبيد. المرة دي هأرد أنا على السؤال: عشان فيه ست بتروح تشدله السيفون، بعد طبعا ما تكون قضت اليوم "مع صديقاتها" بتنتف شعر بطنها عشان تبقى ناعمة وهي لابسة قميص النوم البمبة المسخسخ أبو فتحة في النص، عشان هي "مطالبة بواجب مسائي خاص جدا عايز موود خاص جدا" وإل ما يعملش الواجب الأبلة تضربه على إيديه في المدرسة تاني يوم، وبعدين يا ستي "كل سنة بتفرق معاكو قوي"، يعني صلاحيتك بتخلص بسرعة وما ينفعش فيكي لا شفاف ولا خفاف، والحلاوة ما تلزقش عالجلد المكرمش، ده مثل مقابلة لمثلك الخلاب: "إل يحب الدح ما يقولش أح". إيه الحكم دي؟ وده يا ترى من الأمثلة إل كان جمعها تيمور باشا ولا ده مجهود شخصي؟

إزاي فيه بني آدم عنده شوية دم - شوية بس مش كتير - يتصور إنه من حقه إنه يستعبد إنسان تاني بالشكل ده وبالفجاجة دي؟ بتدب المفتاح في الباب تحضرلك الأكل؟ على أي حال الست إل بتعمل كدة تستاهل إنه يتعمل فيها كدة. الرجالة والستات يستاهلوا بعض

**********************************

"متقلقيش لو الست اطلقت و أترمت في الشارع ساعتها لها رب اسمه الكريم و هو يمهل ولا يهمل و بعدين بلاش استهبال و النبي عشان شغل ايه ده اللي في مصر اللي يجيبلها فلوس حتعرف تحوش منها عشان لو أتطلقت تصرف علي نفسها هي و عيالها، هو حلو عليها تشتغل لحد لما نصيبها يجي و بعد كده تؤعد ف البيت و علي رأي المثل اللي عنده معزة يلمها"

كل المعيز بيتك بيتك: عايزة تحصلي حرمة، أديكي بقيتي معزة مش حرمة بس. زعلتي ليه يا تمر حنة من إل قال – عذرا – جاموسة: المعزة عجبت والجاموسة لأ؟ طيب ده حتى الجاموسة أفيد من المعزة: الجاموسة منتجة لبن أكثر وأفيد وولادة، إنما المعزة معزة مهما كان. ثم يا أخ إذا كان لها رب اسمه الكريم، أمال العيال إل مترمية في الشارع دي مش لاقية تاكل دي جاءت منين؟ من حتة تانية مالهاش رب اسمه الكريم؟

*****************************

"بعدين ترجع هى تاخد شاور كمان في الروقان عقبال لما الخدم يجهزوا الأكل عشان جوزها قرب يرجع و هى يقعد بعد الشاور تظبط نفسها م المكياج و تستخدم احسن و ارقى الانواع و اغلاها و لما جوزها يرجع يتغدوا و يعشوا حايتهم بأه يا اما خروج يا اما هوم سينيما و في نفس الوقت الاولاد يكونوا رجعوا من المداؤس الانترناشيونال عاملين الوورك بتاعهم و جايين راقيين يلعبوا حبه مع ابوهوم و امهم ."

الأخ ده بقى أروق بكتيييييييييير وهو نفس الأخ إل فوق على فكرة: ست واحدة: أخدت اثنين شاور في أربع ساعات منهم واحد بالجاكوزي، مع إنها ما عملتش حاجة طول النهار غير إنها ضبطت الماكياج "الغالي" وقال إيه: راحت المكتبة تشتري رواية جديدة "مافيش مانع"، يا راجل كتر خيرك هي كمان هتقرا؟ بيقولك القراية وحشة على المعيز.

إنما سؤالي هو: ويا ترى "الخدم" إل حضروا الغدا دول من الرجال أم من النساء؟ إذا من النساء يا ترى اشمعنى هن؟ وإذا من الرجال: طيب وزوجاتهم مين بيخدمهم عشان يأخدوا اتنين شاور في اليوم ويتفرجوا على هوم سينما بالليل؟ أصحاب العقول في راحة.

والدرة الأخيرة من نفس التعليق:

"و احترامي الخاص لكل مرأه عاملة عشان تأكل عيالها و تحميهم مش عشان تحقق ذاتها أل ذاتها ستين نيلة"

*************************************

"نا مش معجب بالبوست علشان أنا راجل .. أنا معجب بيه لأنه منطقي وموضوعي وعقلاني"

ده أرسطو اتقلب في تربته أول ما قلت "منطقي". يا سيد المنطق ده علم، ليه شروط، زي "فيزيائي" كدة، ما يتقالش على أي كلمتين وخلاص، هو أرسطو كان ناقصك إنت كمان؟

*****************************

"بس الاول البيت..و التاني البيت..ة التالت البيت..بعد كده هي حرّه في اولوياتها"

وليه الكرم ده كله؟ وفيه حاجة معينة لازم تأكلها ولا ليها حرية الاختيار؟ الأول سبانخ والتاني سبانخ والتالث سبانخ وبعد كدة – عداك العيب – هي حرة في اختياراتها. هممممممم

مين إداكو الحق يا "نطع" منك له تقولوا للست أولوياتها إيه؟

******************************

يا سيدتي تمر حنة، أنا لم أقرأ التدوينة فحسب إنما قرأت ردودك على المعلقين، وعلى أي حال أظن إنك قصدتي ألا تكون المرأة مجبرة على العمل، إلا إن فكرتك على ما يبدو مشوشة جدا، ذكرتني بتلك المقولة الرائعة:

ليس أسوأ من تصور حاد لفكرة مشوشة

كلنا نريد أن نستريح ولا نعمل إلا ما نحب، والإنسان مضطر لكسب رزقه. وكسب الرزق كثيرا ما يرتبط بأعمال لا نحبها، وستظل تلك واحدة من صراعات الإنسان. أما أن تصفي عصرا امتلك فيه الانسان حرية انسانا آخر بهذه الرومانسية وكإنه الحلم فهذا تبسيط مخل لمسألة ليست على الإطلاق بتلك البساطة. كم من امرأة كانت تسحق لخدمة "هودج واحد"؟ هل هذا هو ما تتمنين لللانسانية؟

يا ست تمر حنة: دائما سيبقى واضحا الفرق بين "الحرة" و"العرة". الحرية لها طريقتها الخاصة في أن تفضح نفسها. يبقى فحسب أن ندرب أعيينا على الرؤية.

ويبقى الغم- الغم يا عزيزي أيبك

Saturday, March 17, 2007

ارتباك
"حول الزعم بإن عم عزوز يصلح قاضيا"

التأمل في نشوء المهن والحرف قد يكون أمرا مثيرا، وقد يسوقك التفكير بينما تتمشين على الرصيف المتكسر عادة إلى أفكار كثيرة تؤدي إلى هز رأسك والتساؤل: إذا كان الأمر سهلا هكذا ولا يتطلب سوى التمشي على الرصيف فكيف يفوت حجج المجتمع وكباره؟

فالمهن والحرف نشأت لما احتاج المجتمع لتبادل الخبرات والمجهود أو كليهما، كانت بسيطة في المجتمع البدائي، وتنصب أصلا على مهارات فطرية في الانسان يحتاجها لممارسة حياته اليومية حتى لو كان بمفرده: استخدام قوة العضلات، الحصول على الطعام، الحماية من الخطر، بناء المأوى وما شابهها. إلا إن تعقد المجتمع وتطور الانسان فرض أمرا بدا غريبا، هو الاحتياج لمهن تجافي الفطرة، والفطرة هي القيم البدائية التي تجمع الانسان وباقي الثدييات وإن كان الانسان
يعقدها بعد الشيء، وتطور الانسان لم يكن شيئا سوى الخروج عن الفطرة وأسرها واكتشاف آفاق جديدة. وحتى يومنا هذا ما يزال باستطاعتك أن تقسمي المهن إلى نوعين: نوع يعتمد على مهارات "فطرية" وأخرى تعتمد على مهارات "تجافي الفطرة". وببعض الملاحظة اللطيفة تجدين إن أصحاب الأخيرة يحظون بتقدير وبتعويض أعلى في المتوسط من إخوانهم أصحاب المهن المعتمدة على مهارات لا تجافي الفطرة في شيء. بل وربما لو أسهبت في التأمل لوجدت إن نشوء عدد من تلك المهن ارتبط بعمل أصحابها بالسحر والظن بارتباطهم بقوى فوق طبيعية.

فمهنة كالطب مثلا تجافي ما فطر عليه الانسان والحيوان من الهرب من المرض وأصحابه حفاظا على بقائهما وسلامتهما. وتحفل كل الحضارات بأنظمتها الخاصة بعزل المرضى وحكمة الابتعاد عنهم. وارتبط نشوء الطب بالسحرة والكهنة، أي أولئك المرتبطين بقوى فوق طبيعية. ومازال ذلك ظاهرا في تدريب الأطباء حتى اليوم، إذ يحتاج الأمر تدريبا طويلا أن يعتاد الأطباء الصغار منظر الدم والألم والجروح، معاكسين فطرة الهروب منها حفاظا على سلامتهم الشخصية. وبالطبع يتخذ الأطباء الاجراءات اللازمة للحفاظ على سلامتهم ولا يخشون عليها، وبرغمه، تبقى الفطرة تدق في بداية تمرنهم كأطباء حتى يعتادون الأمر ويقهرون الفطرة. ويتطلب الأمر وجود أستاذ قطعت شوطا لتسوق اليافعين في الطريق.

ومن المهن التي تجافي الفطرة أيضا مهن الانقاذ: هل من الطبيعي أن يكون الإنسان مكافحا للحرائق؟ أبدا! الفطرة تقتضي، وبحكم التكوين العصبي أيضا أن يهرب الانسان من اللهب بأقصى ما يستطيع. أول توصيات الأمان في الحرائق هي: اتركي كل شيء واخرجي فورا: لا تبحثي عن شيء، لا تلبسي شيء، لا تأخذي معك شيء، لا تحاولي مكافحة حريق ليس محصورا في عبوة أو حدود مادية ضيقة: فقط اهربي! مكافحو الحرائق يفعلون العكس تماما: بينما يبتعد الجميع عن اللهب يقتربون. هم مسلحون بأدواتهم ومهاراتهم؟ قطعا – وقد تدربوا على ذلك: دربهم أساتذتهم على مجافاة الفطرة وتحدي الحريق. ومنهم من يموت نتيجة مهنته، ولا يكفون رغم ذلك عن تحدي الفطرة وتحدي اللهب. يصاب الأطباء بالعدوى ومازالوا يتحدون الفطرة. قيسي على ذلك كافة مهن الانقاذ، وكافة أنواع الرياضات القاسية، وترويض الحيوان، ومهن التنقيب، والإبحار، وريادة الفضاء وغيرها.

ولهذه الأسباب المطولة بأعلى وجدتني في حيرة من ذلك التساؤل الغريب – وغريب كلمة مهذبة – والذي عرضته مجموعة من فطاحل القضاء. فحواراتهم تبدأ بجمل من نوع: هل تصلح المرأة أن تكون قاضية؟

وهو تساؤل أظن إن الانسانية وصلت لاجابته من قبل أن تكون العدالة أنثى، قادرة على أن تمسك ميزانا متوازي الكفتين بعينين معصوبتين، إنما حسنا أيها السادة، ومادمتم تصرون على ما أوجع قلوبنا لأسباب تخص مهنتكم نفسها وثقتنا في "عدالة حكمكم" و"عزوفكم عن الهوى" و"اللين وراء رغبات المجتمع المدللة"، فاسمحوا لنا. فالتساؤل من العامة وأصحاب المهن الأخرى كفة وتساؤلكم كفة أخرى. موجعة. اسمحوا لنا أن نسأل السؤال مصوبا:

"هل يصلح الانسان أن يكون قاضيا؟"

والإجابة المغلظة: لا. لايصلح. فأنتم تسألون عن الانسان في المطلق: والانسان في المطلق لا يصلح قاضيا. وعليه فالرجل في المطلق لا يصلح قاضيا. وعليه فالمرأة في المطلق لا تصلح قاضية. فالقضاء يتطلب مجافاة الفطرة التي تميل وتهوى، والعاطفة التي تستلطف وتأنف، والميل الذي يسوقنا نحو أناس دون غيرهم، ونظرة شاملة شبيهة بنظرة الفلاسفة والتي تجافي الفطرة أيضا في النظر الضيق للمسافة المحيطة بنا فحسب، حماية ليومنا وقوته. يجافي الفطرة في أن يعزف الانسان عن استغلال سلطة وحظوة لمنافع شخصية. وكلها صفات بعيدة عن "فطرة الانسان" غير المنقحة. وأنتم أول من يعرف ذلك عن تأكيد: وإلا لماذا تدققون وتمحصون وتفحصون المتقدمين بدقة وقسوة، وتدربون وتشرفون وتتركونهم يترقون في السلم ببطء وتدققون كل يوم على صفات من نوع: الحيدة والنزاهة والعزوف عن الاشتراك في أي نشاط يلوث نزاهتكم المفترضة في كافة وسائل الإعلام المتاحة؟

وعليه يا حضرات المستشارين فالتساؤل ملتو ومغرض. فنحن لم نأخذ عليكم كذكور حجة إن عم عزوز البقال لا يصلح قاضيا ولا مستشارا لإنه لم يتلق تدريبا ولا تعليما ولا يقرأ ولا يكتب. والإقرار بإن المرأة لا تصلح قاضية لكونها امرأة فحسب يشبه الإقرار بإن عم عزوز الطيب السابق ذكره يصلح قاضيا لكونه ذكرا فحسب. ولم نأخذها عليكم دلالة إن الرجال لا يصلحون قضاة إن شادي جارنا يضرب زوجته وعياله ويشرب الحشيش حتى ينسى اسمه. إنما "العدل" و"الحق" هو أن تعطوا النساء نفس الفرص التي تعطونها لزملائهم من الذكور وتصل منهم من "تتحور" لتصبح "خامة قاضية" وتفشل منهم من تفشل لما تعجز عن "التحور"، مثلها مثل زملائها من الذكور الذين "يعجزون عن التحور" لا تخرج منهم أبدا "خامة قاض".

لنتطرق أكثر للتفاصيل وهو حديث ذو شجون. فمحاولتكم للتبرير تجافي موازينكم المفترض عدالتها. أليس كل الناس من حيث المبدأ أمام القاض سواء؟

فمن المقلق أن يخرج قضاة محترمون بقول من نوع: إن المرأة عاطفية بطبعها. ويحيرنا ذلك لافتراضكم أن القاضي لو كان عاطفيا "بطبعه" فسيحكم "بطبعه". وسبب ثقتنا فيكم هو تأكدنا إنكم تدربتم ألا تحكموا "بطباعكم" إنما بالعدل والقانون. فحتى لو سلمنا بتلك الفرضية التي نرفضها "فالطبع" ليس مقياسا للصلاحية للقضاء إنما القدرة على"تنحيته" هي المقياس. وفي هذا الوقت المحير من تاريخ مصر حيث يحكم قضاة "بالهوى" أكثر بكثير مما كنا نرضى وبمخالفة القانون عيانا أحيانا - لا داعي للخوض في هذا الشأن فالكل يعلمون - في هذا التوقيت بالذات يبدو الحديث عن "عاطفية المرأة" نوعا من العبث: عالجوا أمراض القضاة الخاصة من الميل والهوى وعندئذ تستطيعون أن تدرسوا عاطفة المرأة "منزهين" عن "ميلكم وهواكم" العازف عنها.

كنت أتمنى أن أذكر اسم القاضي الذي أطلق القول: "إن منظر المرأة الحامل يخل بهيبة القضاء". للأسف لا أذكر. أتعاير المرأة يا قاضي العدل بالحمل؟ أتخل الأمومة بهيبة القضاء؟ كفوا إذن عن بيع سلعكم الفاسدة للنساء عن كون "الأم مدرسة" و"أقدس وظيفة تقوم بها المرأة" و"الجنة التي تقع تحت أقدامهم". فالحقيقة هي إنكم تحتقرون الوظيفة وصاحبتهما وأنتم ومجتمعكم تنتهزون كل فرصة أن تستغلوا "الوظيفة المقدسة" للإقلال من شأنها وحرمانها من الفرص وهو نوع من النفاق المخزي، والمخزي أكثر لصدوره منكم، وإن كان ليس بالمستغرب، فأنتم تحكمون كل يوم بقانون يحقر المرأة ويحرمها العدل والمساواة بمن هم أقل منها وليس حتى بمن في مستواها لمجرد إنهم يهزون خصيتين بين ساقيهم. ما لا أفهمه ولا أجد له سببا هو أن تشتري المرأة من المجتمع تلك السلعة الفاسدة وتصدق إن كونها أما هو مصدر احترام بينما هن يعايرن بكل ما يحيط بالأمومة من صفات جسدية: دورة هرمونية وحيض وولادة ونفاس ومعايرة باسم الأم وبالأم نفسها. متى سيستفقن أم استمرأن الغيبوبة؟

"غرفة المداولة خلوة شرعية"!!!!!!

مادمنا بدأنا بالتسليم بفرضياتكم فلماذا لا تخرج "أنت"؟!!! ألست طرفا في "الخلوة الشرعية" يا قاضي العدل؟!! لماذا تحرم المرأة بموجبها من حق وتأخذه أنت؟ أم إن العادة إن "الحق" للذكور و"المنحة" للإناث؟ خذوا منحكم وعطاياكم، ما نريده هو العدل وشقيقته اللصيقة المساواة وليس المنن. وبالتسليم أيضا بفرضيتكم "الغريبة" على أحسن تقدير: فكم مرة يتواجد "قاضيان" فحسب في غرفة المداولة؟ ومتى كان غرفة المداولة مغلقة بالأقفال؟ وماذا عن الطبيبات اللائي يفحصن مرضى من الرجال في غرف كشف مغلقة؟ أتصطحب معك ثالثا أم إنك من أولئك الذين لا يزورون الطبيبات النساء أصلا لكونهن غير كفء مهما تساوين مع زملائهم في التدريب والألقاب؟

ويبدو الحديث عن اضطرار معاون النيابة ووكيلها للخروج ليلا والذهاب إلى أماكن الجرائم وعدم قدرة المرأة على ذلك مدهشا في هذا الزمن. أضف عليه إن المرأة "ستفزع" حين ترى الجثث الممزقة!! ألا يعلمون إن الطب الشرعي في مصر تخصص "نسائي" – أي تسوده الإناث - مثله مثل طب التحاليل؟ أي إن النساء ترين الجثث الممزقة ولا يفقدن الوعي من الخضة فلا تقلق عليهن ووفر رقة القلب هذه لمتهم مظلوم. والطبيبات يخرجن كل يوم ليلا لأعمالهن، وطبيبات الولادة مثلهن مثل الأطباء الرجال يعملن في مجال متخصص في الفجر والساعات المتأخرة من الليل ولم يشتكين بل ويدافعن باستماتة عن وظائفهن من الزحف الذكوري غير المبرر.

وأحد المستشارين يتساءل كيف ستستقيم الحياة إذا كان القاضي لا يعين في مدينته وينقل كل خمس سنوات إلى مدينة أخرى مطمئنا إلى إن الزوجة في البيت ترعى العيال. ألم تسمع يا سيدي بذلك السلك المسمى "السلك الدبلوماسي؟"!!! فالنساء فيه ينقلن خارج الوطن كله كل أربع سنوات. ألم يبحث أحد مثل تلك التفاصيل قبل أن يتحدث في وسيلة إعلامية واسعة الانتشار كالتلفاز؟ وتكليف الطبيبات؟ والباحثات في بعثات؟ الحياة الأسرية تتكون من اثنين يا أخي، يدبر فيها اثنين أمورهم بالشكل الذي يرتضيانه وحسب ما يرغبان فيه، وليس دوركم أن تحملوا هم "العائلات". دوركم أن تتيحوا الفرص وتتنحوا عن إعاقة الطريق وتوفروا – مرة أخرى – رقة القلب غير المبررة لمتهم مظلوم. وحتى لو سلمنا بتساؤلكم غير المبرر وأجبناه: فما ذنب غير المتزوجات؟ تسعة ملايين كما يشيعون؟ وما ذنب من ليست لديها أولاد؟ وما ذنب من لديها من يرعى الأولاد؟ وما ذنب من يتعاون معها زوج يدرك إن دوره في تربية الأولاد ليس بأي حال أقل من دورها؟ ما ذنبهن لتأخذهن بفرضية وضعتها أنت أيها الذكر المتعالي؟

ويسوقنا الموضوع كله مرة أخرى في مسألة المرأة إلى تلك الفرضية التي تقضي بإن العالم ينتهي في آخر شارعنا. فأنت تتساءل عن الصلاحية وكأننا سنعرض لتجربة جديدة! يا سادة ويا سيدات: أنظر حولك! المرأة قاضية في دول إسلامية ومسيحية ويهودية ولا دينيه! لستم تستكشفون منطقة بكر بهذا الشأن. إن كنتم تبغون حرمانها من حق لها تحت مسمى ما فصرحوا ولا تكتموا، أما أن تغلفوا ذلك بتساؤل مائع مثل: "هل تصلح المرأة أن تكون قاضية؟" فهو استخفاف بعقولنا التي تعرف – لو أرادت أن تعرف – إن المرأة في دولتين قريبتين جدا من "شارعنا" – أي ليس في أميركا ولا الصين - تعتلي منصة القضاء بنجاح منذ عقود: لبنان والسودان الشقيق في الذكورة والهم.

على الهامش:

سيادة المستشار أحمد مكي: ساءنا وحز في نفوسنا وأحزننا قيادتكم لجبهة الوسط في القلق من إعطاء المرأة حق تأخر قرون. وساءتنا أكثر مبرراتكم إذ إنكم وبسبب مواقفكم في العامين الماضيين كنتم رمزا لما نحب ونرجو أن يكون القاضي عليه. عجزنا عن فهم تساؤلكم حول "زي المرأة" في القضاء وكيف يكون، إذا بدا تساؤلكم سطحيا يمس قشور الأمور، فتساؤلكم إن كانت ستشبه "فتيات الإعلان" يقابله تساؤل عن سبب عدم مشابهة زي القاضي الرجل لأزياء "فتيان الإعلان"، كما تعجبتم إن كانت ثلاثة نساء سيجلسن على المنصة إحداهن كاشفة الشعر والأخرى محجبة والأخرى منتقبة، ولم نفهم العجب في اختلاط ثلاث أشكال من الزي على منصة القضاء، وإن كنا نعترض معكم أن يغطي القاضي وجهه إذ إن المحكوم لابد وأن يري وجه من يحاكمه، أما أشكال الزي الأخرى فلا نرى في اختلاطها عجبا، وإن كان الأمر يعنيكم كثيرا فالقضاة كانوا في عصور يرتدون رداءا موحدا، وهو ليس بالأمر الذي يجوز تعطيل العدل لأجله. وسمعنا منكم عبارات عن كراهية الغرب للإسلام وسعيه لتلك الخطوة لإخراج المجتمع عن تقاليده الإسلامية. قلتم ذلك على قناة الجزيرة بعد أن شفعتموه بمقدمة عن إن الإسلام لا يمنع في الفقة المنقى من تولي المرأة القضاء، وعليه لم نفهم فكرتكم ولم نستقي منها سوى المزيد من الإرباك لمجتمع أفكاره مرتبكة أصلا، يعجز عن المصالحة بين المنطق والنزعات الدينية. أويحاول الغرب إخراجنا عن ديننا بتشجيعنا على إعطاء المرأة حق أخذته النساء في مجتمعات إسلامية عدة؟ أتلك مؤامرة خارجية على الإسلام أم مؤامرة داخلية؟
حسن في أعيينا أن ذكرتم المجتمع بالحكم المخزي في قضية الدكتورة عائشة راتب، والذي أقر بأن القانون لا يمنع وإنما المجتمع وهواه يمنع فسجل حكما تاريخيا "للهوى" عوضا عن العدل و"للميل" عوضا عن الحياد. انتهى.

إن ما حدث بدون مناسبة مفهومة من تعيين إحدى وثلاثيين قاضية بشكل غير طبيعي ومناف للطريق المعروف الذي يسلكه الذكور من خريجي كليات الحقوق، لا يُعتبر إنجازا ولا فتحا، إنما هو توكيد على عدم طبيعية ترقي المرأة منصة القضاء، وظلم للدفعات من خريجات كليات الحقوق التي حرمت من التقدم لامتحان التعيين من نفس الدفعات التي عينت الآن بشكل مبتسر. بل ويزيد عليه إن القاضيات المعينات تم اختبارهن باختبارات تحريرية وشفهية لا يمر من مثلها زملائهن من الذكور. فبقاء الأمور بهذا الشكل تبقى منحة ومكافأة ليس لها من سبب معين، تسيء لقضية عادلة لمواطنين يستحقون العدل وليس المنحة والمساواة وليس المنن.

عم عزوز لن يصلح قاضيا أبدا في الأغلب مهما حاولتم. وأي من قاضيات السودان أو لبنان ستصلح قاضية في مصر أيضا – في الأغلب.