--ا
كنا نستعد أخيرا للعودة للمنزل، حين دخل الطبيب الشاب الأنيق ليسألنا سؤالا، بدا حتميا على ما يظن.
-
"شكرا ... بعدين"
"المفروض أقول لكم إنه أحسن دلوقتي من بعدين"
يبدو إن الطبيب الشاب الأنيق أصر أن يرى الوجه الآخر للأمور
- "يعني، كدة ولا كدة هتلاقوا نفسكم بتعملوها بعد أربعين يوم ولا شهرين، وإنتوا هنا في حموتها أحسن"
- "شكرا، مش عايزين"
أخذت الولد النائم تحت ذراعي ببعض القوة والإحساس بالخطر المحدق
- طيب، يبقى لازم أحذركوا ما تعملولهوش العملية إلا بعد ما يتم أربعين يوم""
أخرج عن أعصابي
- "اطمن... إحنا مش هنعملها له خالص"
- "هاها ... كل الأمهات والله بيكونوا خايفين وبناخد منهم العيال بالعافية، الظاهر إن دي أول مرة، بس دي حاجة بسيطة "خالص
يخطر ببالي أن تلك اللحظة هي الأنسب كي أوخزه بأي من الأدوات الطبية الموجودة حولنا بين ساقيه ليرى كم هي حاجة بسيطة و"خالص"، ويخطر ببالي أن أخبره إنها بالتأكيد ليست "أول مرة" أقابل طبيب نبيه زي حالاته: شاب وأنيق وفاكر نفسه عارف كل حاجة... الكاركتارات المغرية بالعبث في دماغها.
- "لأ، حضرتك مش واخد بالك، إحنا مش هنعملهاله خالص فعلا، مش خايفين وهياخدوا مننا العيال بالعافية"
يبدو عليه عدم الفهم والبلاهة العامة التي يتميز بها الأطباء حالما يواجههم أمر خارج عن سيطرتهم وغطرسة سلطتهم الأبوية وذلك التعبير الغير مصدق: "كيف يجرؤون؟"
- "يا مدام... دي نضافة عشانه"
آه... ده انت جاي لرزقك بقى، باعتبارنا في القرن الرابع للهجرة وما عندناش مية ولا صابون ولا "وِت وايبس" جونسون وجونسون.
- "أصل إحنا ناويين نحميه... بالشامبو"
- "لأ، طبيا و..."
لم أسمع شيئا بعد طبيا سوا "بلاه بلاه بلاه" كما يقول الفرنجة
فكرت أن أشرح للطبيب الأنيق إنه في أغلب الظن حمار لا يقرأ ولا يعرف سوى ما قرأه في "كتيب الاستخدام". فكرت أن أشرح له أيضا إنني لن أسمح لليهود أن يقرروا التقطيع من جسم رضيع أنا مسئولة عنه. إنما عدت وتذكرت: بالنظر لإنه حمار ولم يقرأ سوى كتيب الاستخدام ولا يعرف عن اليهود سوى إنهم أحفاد القردة والخنازير ... إيه احتمالات إنه يفهم؟ فكبرت، كما يقول الشباب الآن من سن الطبيب الأنيق "النظيف"
لا أعرف النقطة التي خرج عندها الطبيب الأنيق تحديدا، كان الولد ملفوفا بعمر يوم واحد يكاد لا يلاحظ لو طويت عليه معطفي وهم يريدون أخذه ليوخزوه بالإبر ويقصوا من جسده المنهك بالمقص، ويعذبون أيامه الأولى بالبول الحمضي السائل على جرحه المفتوح. آه يا جزارين يا مجرمين يا جهلة. ما تخافش يا واد، ولا حد يقدر يلمسك وأنا موجودة، أمال إنت فاكر إيه؟ لما تكبر ابقى قطع في روحك زي ما أنت عايز، إنما لحد ما تكبر لك عندي أسلمك لنفسك صاغ سليم.
خرجت وهو مازال ملفوف داخل معطفي ومرنا على الحضانة الملئي بالأطفال حديثي الولادة: نجل سناء أحمد على، نجل أول رشا محمد مصطفى، وتوأمه نجل تاني رشا محمد مصطفى، نجلة منى عزيز عبدالرحمن، نجل منة الله عمرو الكردي، نجلة تانية مريم عصمت مطر.... نعم، يُكَتب المواليد في المستشفيات بأسماء أمهاتهم - زي الدعاء كدة – ربما كانت تلك من الأمور المنطقية النادرة التي ستسير بسلاسة في حياتهم - يعني، يومين باسم أمهم مش حكاية، إلا بقى إذا ماتوا في الحضانة، هيبقوا عاشوا طول عمرهم يحملون اسم أمهاتهم.
وقفنا أنا وهو خلف الزجاج، كان متعبا بعد رحلة الولادة المزعجة ووجهه مازال متورما ومكدوما ولكنه منتصر رغم ذلك في معركته الأولى، بدا متباهيا في لفته البيضاء الصغيرة ذات النقاط المبعثرة بألوان كثيرة. ربما خيل إليَ إنه متباه. كدت أدخل لأعتذر للأولاد إنني لن أستطيع حمايتهم كلهم من الوخز والقص والتقطيع، وأعطي كل منهم قبلة بديلة عن الحماية. كلما نظرت إليهم ضغطته في لفافته أكثر. كنت أود أن أعده إن تلك هي المرة الأخيرة التي سيتهدده الجهل والقسوة فيها، ولكنني كنت أعلم إنها ليس كذلك، وإن هذه ليست سوى الموقعة الأولى ... فحسب.
(لا تشمل خطوات الشق الجراحي والقص)