الأمر الآخر الذي أردت أن أعلق عليه بشأن "مولد سيدي حجاب"، وكنت أود الكتابة عنه حتى من قبلها، فقد تابعت – حسبما اتسع الصدر دون أن ينفجر – ما يكتب في الجرائد وما يكتب على المدونات، وتعلقت بأذني نغمة ليست المرة الأولى التي أسمعها فيها، إلا إنها على ما يبدو قد تفشت، وظن أصحابها إنها "منطقية" ردا على من يعتقدون بكون الحجاب ردة ثقافية واجتماعية بل وإنسانية في حق المرأة والرجل على السواء.
فما إن يتحدث أحدهم برأي مخالف بشأن الحجاب حتى تجد من يحدثك عن "الحرية الشخصية" وإنها "الحرية الشخصية" للمرأة وإنه "إشمعنى إل عايزة بتقلع تقلع". وأصبحت ما إن أسمع تلك النغمة حتى أتعجب، ثم أتساءل عن القدرات العقلية لمن يستخدمها.
فحين يرد المعترضون على "فرض" زي معين على المرأة بالدفاع عن "الحرية الشخصية" فهذا وجيه لإنهم يتحدثون عن اعتراضهم على "الفرض" والفرض يتعارض والحرية الشخصية، أو يكون الرد على "تبرير التحرش" بعدم ارتداء زي معين يرضي الأغلبية مغلفا فكرة "من لا ترتدي الحجاب مسئولة عن التحرش بها ولا يجوز أن تطالب بحماية في الشارع" ولا أظن أحدا لا وزير الثقافة ولا غيره تحدث عن "فرض" عدم تغطية الرأس، أو عن إنه يدافع عن التحرش من قبل المثقفين لمرتديات غطاء الرأس في الشاعر وعدم أحقية مرتديات ما يسمى الزي الإسلامي بالحماية لإنهن يدعين لردة ثقافيةََ!! ولا أرى أي منطقية في أن يعتبر تعبيرك عم تراه خطأ ولو كان سلوكا شخصيا، طالما لا تعبر عنه تجاه شخص بعينه تعديا على حريته الشخصية. فمن حقي أن أعبر عن رأيي بإني أعتقد إن الإكثار من مشاهدة التلفاز يصيب بالعته والبله وأمراض الذهان وليس في هذا من تعد على حرية أحد الشخصية أن يشخص نحو الشاشة 24 ساعة في اليوم. هذه واحدة
أما الثانية فهي إن مشاعرا مختلطة تتلمكني حين يتحدث أحدهم عن: "إن إل عايزة تقلع بتقلع" ولا أفهم عم يتحدث. فالمرأة المصرية التي تعتقد "بحريتها الشخصية" وترتدي ما تحب ويتصادف أن ما تحب يخالف رأي من يمشون في الشارع حول اللحم المكشوف تتعرض للتعدي أحيانا على "شخصيتها" نفسها وليس حريتها فحسب. بالنسبة لمن تسير غير مغطاة الرأس فلا تعدم من يصب في أذنيها كلمتين يعبر بهما عن استيائه، ناهيك عن تلك الظاهرة المخيفة: الملصقات. الصق على كل حائط في الترام وكل حائط في الجامعة، وجدران الميكروباص وكل حائط متاح عبارات التهديد والوعيد:
"أيتها المترددة ... ألا تخشين عذاب النار؟"
"الحجاب فريضة كالصلاة"
"حديث الكاسيات العاريات"
"الحجاب يحميكي من الذئاب"
ولا مانع من بعض النعومة أيضا ....
"حجابي طريقي إلى الجنة"
"أختي ... نحب أن نراكي في ثياب العفاف"
"أنا أحب حجابي"
وقطعا، دعوة كل لفكره دليل على سيادة حرية التعبير، وبما إن من يعتقدون إنني عورة يجب إخفاءها يعبرون عن رأيهم بحرية، فقد فكرت أنا أيضا، بما إنني مواطنة لها نفس الحقوق – نظريا على الأقل – أن أضع ملصقاتي الخاصة التي أعبر بها عن رأيي ورأي الجماعة التي لا ترى في الحجاب إلا لعبة سياسية مشفوعة بردة اجتماعية، إليكم بعضا من ملصقاتي:
التهديد والوعيد:
"أيتها المترددة ... أوعي يميلوا دماغك"
"الحجاب مش فريضة ... بطلوا نصب بقى"
"الحجاب فريضة اجتماعية لم تظهر إلا حديثا"
"لو لم يحمك القانون من الذئاب فلن يحميك ألف حجاب"
"عمر الحرة ما تبقى عورة ... عمر العورة ما تبقى حرة" *
ثم بعضا من النعومية الخاصة بي أيضا لأكون أهلا للمنافسة في سوق محتدم:
"مافيش جنة بتتدخل بالهدوم ... ولا حتى جنة الفواكه"
"أختي ... أحب أن أراكي في ثياب مناسبة للطقس"
"إل يقولك إنت عورة ... عوريه"
"صوني رأسك بإعمالها"
وهكذا، مادام الحديث عن الحريات فليمارس كل منا حريته بكامل طاقته. وعلى كل حين أسمع مرتديات غطاء الرأس يتحدثن عن إنهن "مضطهدات" أحك رأسي في حركة أزلية يعتقد الانسان لسبب ما إنها تساعده على الفهم، بينما اتضح إنك لو حككت رأسك كلما قابلت ما يستعصي على الفهم في مجتمعنا فستنتهي بقرحة في فروة الرأس ولن تفهم شيئا مع ذلك. إخواننا، يعتبرون "التعبير عن الرأي" تعد على حريتهم الشخصية لإنها لا توافق هواهم ولا تتواءم مع ما يفعلون. أفكر في ثورة نصف الشعب المصري الأمي السعيد بأميته لو خرج وزير التعليم ليقول: "الأمية دلالة على التخلف" لتعد سيادته على حريتهم الشخصية وعلى الميول المزاجية لنصف الشعب المصري. أفكر في ثورة الشعب على وزير الصحة لو خرج علينا قائلا: "النزول إلى الترعة سيصيبك بالبلهارسيا"، فمن هذا الذي "لا ينفع وزيرا ولا غيره" ليعتدى على حريتهم وحرية أولادهم الشخصية في "البلبطة" في الترعة كما يحبون، بل وقد يمارس المزيد من تعدياته بمطالبته لوزير الري بتغطية الترع أو تجفيفها. ألا يفهم إن فيصل صحة الرأي وسماحنا لك بالتعبير عنه هو أن يتسق مع مزاجنا العام. أحمق.
وبما إننا فتحنا ذاك الموضوع - لطم الخدود في جنازات الحريات الشخصية فسأورد مثالين قبل أن يوردهم أحد، لإنهما مثالين صارخين على قلب الأمور واستغلال كل المساحات المتاحة تحت مبدأ: الغاية تبرر كل شيء.
أولا: لا تنفك مذيعات التلفزيون المصري المحجبات اللاتي مُنِعن من الظهور على الشاشة في الحديث عن التمييز ضدهن بسبب الحجاب، وأنا وقسما بالقبعات والبناطيل ومشدات الصدر وكل أنواع الملابس أضرب كفا بكف. فمن ذلك الأبله الأحمق الذي يظن إن قنوات التلفزيون التي يخرج فيها الفرد على الناس مجالا "للحرية الشخصية"؟ لو خرج مذيع الأخبار غدا مضفرا شعره سيمنع من الظهور على الشاشة، لو خرجت مذيعة تغطي صدرها بصليب ستمنع من الظهور على الشاشة، لو جرب مذيع أن يقرأ الأخبار بينما يرفع ساقيه على المكتب سيمنع من الظهور على الشاشة، لو قررت مذيعة أن تكشف صدرها ستمنع من الظهور على الشاشة. أليست كلها "حريات شخصية" أيضا؟ أو لنقل مثلا إن مذيعة في قناة "إقرأ" ممارسة لحريتها الشخصية قررت الظهور بدون غطاء رأس هل يا ترى سيسمحون لها؟ ولم لا؟ لإن أماكن العمل ليست أماكنا "للحريات الشخصية" إلا في نطاق ضيق جدا، فكل قناة يفترض إنها تحمل فكرا ما وتنشره ومن حقها أن تفرض المظهر المتماشي مع ذلك، ولا يسري ذلك فقط على التلفزيون، فأنا لا أستطيع أن أعمل في استقبال فندق وأذهب إلى هناك "بالشبشب" مهما كان على أحدث صرعة، ولا أستطيع أن أفعل ذلك حتى لو كانت قدماي تؤلمانني، لإن هناك زي للجميع. لا يستطيع شاب يعمل في استقبال فندق أن يغطي رأسه بطربوش ممارسا لحريته الشخصية. كفاكم قلبا للحقائق.
ثانيا: الموقعة الثانية التي تلطم فيها الخدود ويبكي الكل فيها على الحقوق المهدرة هي موقعة "مصر للطيران" المفترية التي ترفض عمل مضيفات أو قائدات طائرة محجبات. حرية شخصية ... هممم. ماذا لو استيقظت مضيفة صباحا وقررت إن لون الزي الموحد المثير للغثيان الخاص بمصر للطيران يبدو "فظيعا" عليها وقررت أن ترتدي لونا مختلفا ذلك اليوم: لنقل مثلا "ليموني فاقع"، فكما قالت لها صويحباتها فهو يبدو رائعا عليها. حرية شخصية. أو لنقل إن قائد الطائرة قرر إنه يستريح بشكل أفضل في الجلباب – وراحة قائد الطائرة من أمان الطائرة – فقرر أن يذهب لعمله ذلك اليوم مرتديا الجلباب. حرية شخصية. وهو لن يرتدي أي جلباب على أية حال، سيرتدي جلباب صوف معتبر مع قفطانه. أهناك حرية أجمل من ذلك؟ طائرة لا تعرف الطاقم فيها من الركاب. مساواة كاملة. يفترض إن الزي الموحد له هدف، لست أعترض على تغيير الزي الموحد، ولكن حتى يتم ذلك فالالتزام بالزي الموحد أو مواصفات الملبس جزء من العمل لا علاقة له بالحرية الشخصية.
أفكر في ممارسة حريتي الشخصية التي يباهيني بها المدافعين عن غطاء الرأس غدا، وأنوي أن أخرج بكمية محترمة من البشرة المكشوفة، إذ كنت أفكر مع صديق في طرق سريعة للانتحار.
**تنويعة على مقعطع من أغنية سيد درويش "بنت مصر"
"عمر الحرة ما تبقى عرة وعمر العرة ما تبقى حرة"